ليبيا بؤرة حرب باردة..بين “البيت الأبيض والكرملين”

خاص قورينا
—————————–
تكشف المأساة الليبية الممتدة على مدى 10 سنوات من أحداث “نكبة فبراير”2011، أن ليبيا تعرضت لأكبر عملية وكالة أجنبية في التاريخ منذ سقوطها قبل 10 سنوات.
فعملاء الناتو، الذين تصدّروا التمرد المسلح ضد الدولة الليبية الراسخة 2011، كانوا مجرد “أذناب وواجهة” لقوى كبرى لها مطامعها الخاصة للنيل من الوطن. وكانوا ولا زالوا وكلاء للمحتل الأجنبي، لا قيمة لهم على الطاولة وداخل مفردات الصراع.
وتكشف أبحاث ودراسات استراتيجية أجنبية عدة، اطلعت عليها “قورينا”، أن ليبيا تضيع بالفعل تحت ظلال “صراع شرس” متعدد الجولات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وأنها أصبحت في قلب الصراع الأمريكي- الروسي في المنطقة.
ووفق تقرير نشره موقع “المونيتور”، فإنه في الوقت الذي تتحمل فيه الولايات المتحدة، المسؤولية الأخلاقية تجاه ليبيا، لأنها شاركت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما في التدخل العسكري عام 2011 لدعم التمرد المسلح -الذي أطلق عليه اسم الثورة الليبية- وانتهى به الأمر، إلى إرسال ليبيا إلى الفوضى والصراع وانعدام القانون. فإنه وبعد شهور قليلة من مجىء بايدن، تنحو الإدارة الأمريكية الجديدة، نحو نهج أمريكي نشط جديد تجاه ليبيا، وتغير الأماكن على رقعة الشطرنج، بعدما زار القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوي هود طرابلس، 18 مايو الماضي، والتقى “المنقوش والدبيبة المنفي”. وهود أعلى مسؤول أمريكي يزور ليبيا منذ عام 2014 ، بعدما انتقل موظفو السفارة الأمريكية إلى تونس بسبب تدهور الوضع الأمني في البلاد.
وعلقت ستيفاني ويليامز – المبعوثة الأممية السابقة في ليبيا وفق “المونيتور”، بأنها تعتقد أن إدارة بايدن أكثر جدية بشأن ليبيا في كل من (السياسة والاستراتيجية)، وأنها لاحظت هذه “النغمة الجديدة” خلال إحاطتها الأخيرة لمجلس الأمن الدولي في يناير الماضي. وقالت أيضا إن تعيين نورلاند مبعوثا لليبيا “إشارة جيدة” تشير إلى عودة الولايات المتحدة إلى ليبيا.
وهي تعتقد أن واشنطن تمر بـ “عملية شاملة في السياسة” تهدف إلى العودة إلى التعددية في معالجة الشؤون العالمية، بما في ذلك النزاعات، وهو ما يتناقض مع توجهات الإدارة السابقة برئاسة ترامب التي اتبعت سياسة أكثر أحادية الجانب، تحت شعار “أمريكا أولاً”.
لكن هذه الإطلالة الأمريكية الأخيرة على وضع ليبيا، لا تكشف حقيقة ما يدور على أرضها ولكنها (قشرة)، لموجة عنيفة من الصراع الأمريكي – الروسي على الأرض طوال السنوات الماضية.
ويؤكد باحثون، أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان قد تجاهل ليبيا شكليا وبالخصوص في عهد ترامب، وفق الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، بالاستدارة نحو الشرق والاهتمام بالصين والنفوذ الصيني، ما لبث أن تحول تمامًا، وبعد أن استنتجت وزارة الدفاع الأمريكية، ومؤسسات العسكر والأمن الأمريكية، أن الحراك العسكري الروسي، يتطور باتجاه يخل بثوابت الأمن الإستراتيجي للولايات المتحدة. وأن تفاصيل الصراع الليبي الهامشية بالنسبة لواشنطن، تصبح أمراً جللاً حين تصبح ليبيا بلداً مرشحاً للتمدد الروسي في شمال أفريقيا والبحر المتوسط.
وقد كثَّف البنتاغون، والحلف الأطلسي، لاسيما القيادة الأمريكية – الأفريقية، (أفريكوم) من المواقف التي ظهر من خلالها رفضا واضحا لتمركز روسيا على أبوابِ أوروبا بما يشكله الأمرُ من خطر استراتيجي على المنظومة الغربية برمتها.
وتوقفت القيادة الأمريكية الأفريقية “أفريكوم”، مايو 2020، أمام حدث عسكري بارز، وقالت: إن طائرات روسية وصلت من قاعدة جوية في روسيا، بعد عبورها سوريا وإعادة طلائها لتمويه أصلها الروسي. واعتبر الجنرال في الجيش الأمريكي، ستيفن تاونسند، أن (روسيا تحاول قلب الميزان لصالحها في ليبيا، مثلما رأيتهم يفعلون في سوريا؛ إنهم يوسعون وجودهم العسكري في إفريقيا باستخدام مجموعات المرتزقة المدعومة من الحكومة (فاغنر)”. كما أشار تاونسند، أن روسيا نفت لفترة طويلة تورطها في الصراع الليبي المستمر، لكن الآن لا يمكن إنكار ذلك)
ووفق محللون، فعلى الرغم مما كان يمتلكه الاتحاد السوفيتي من علاقات متطورة مع “الجماهيرية الليبية” في عهد الزعيم الراحل معمر القذافي، إلا أنه على الرغم من صراعه مع الولايات المتحدة، لم يسمح برسو قطع بحرية سوفيتية في موانئ ليبيا، لإدراكه بذكائه الشديد آنذاك، ما يشكله الأمر من اختراق للخطوط الحمراء التي كانت معتمدة في حقبة الحرب الباردة، وحتى لاتتحول ليبيا الى موطن صراع أمريكي روسي يدفع الوطن ثمنه فيما، ومثلما حدث مع بلدان أخرى وافغانستان مثال بارز.
في السياق ذاته، وكما يرى محللون غربيون، فلئن تمتلك روسيا نفوذاً متقدماً في سوريا تطل من خلاله على المياه الدافئة المتوسطية، فإن ذلك لا ينسحب بأي حالة على الحالة الليبية ولا يمكن للأمريكيين أو الأوربيين التسامح بشأنه وهو ما كان واضحا خلال اجتماع شهير بين بوتين وأوباما في نيويورك سبتمبر 2015، فليبيا تمثل بوابة استراتيجية من بوابات أفريقيا باتجاه أوروبا، ويَسمح موقعها الجيوستراتيجي بالإطلالة على أوروبا، ويشكل أي وجود عسكري روسي على الشواطئ الليبية خطراً على أمن جنوب أوروبا وتهديداً للوجود الأمريكي في أوروبا، لا سيما في إيطاليا حيث تبعد الشواطئ الليبية مسافة عدة كيلومترات عن القواعد الأمريكية هناك. وبالاضافة إلى أهمية ليبيا الجيوستراتيجية وأهميتها بالنسبة لأمن أوروبا، فإن البلاد تمتلك مخزوناً هائلاً من النفط والغاز. ولا يمكن للمنظومة الغربية، بالمعنى السياسي والاقتصادي، وللحلف الأطلسي، بالمعنى الأمني والعسكري، السماح بالتساهل إزاء واقع الحضور الروسي في ليبيا.
في السياق ذاته، يعتبر الوجود العسكري الروسي في ليبيا مناورة استراتيجية تمارسها موسكو، للرد على الضغوط الغربية التي تمارس ضدها عبر أوكرانيا وبيلاروسيا وغيرها.
على الجهة الأخرى، فإن موسكو، وطيلة العشر سنوات الماضية لم تترك فرصة تواتيها للمجىء والقدوم لليبيا، والا انتهزتها تمامًا وعملت على الاستفادة منها. وموسكو ربما تصر على دهس الخطوط الحمراء الغربية والأمريكية، على وجه الخصوص، متعمدة ذلك بالتواجد في ليبيا وهى تعلم تمامًا مدى حساسية شمال أفريقيا بالعموم وليبيا بالخصوص في الميزان الإستراتيجي الأمريكي.
ويؤكد المحلل السياسي صموئيل راماني، أن التحول الإستراتيجي الروسي في ليبيا: أصبح مغامرة رابحة، بعما عملت موسكو على الحفاظ على نفوذها في ليبيا من خلال عدد من الأساليب المبتكرة.
ونوه صموئل راماني، الى زيارة الدبيبة الى موسكو أبريل الماضي، ولقائه رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو ، وسكرتير مجلس الأمن نيكولاي باتروشيف، فبعد لقاء الدبيبة ، أشاد شويغو بالشعب الليبي ووصفه بأنه “صديق لروسيا” ودعا إلى استئناف “التعاون الكامل” بين وزارتي الدفاع الليبية وروسيا. فيما تعهد الدبيبة بـ “بناء جسور جديدة” مع روسيا وأكد على قدرة موسكو على لعب “دور رئيسي” في الاقتصاد الليبي.
لكن للوهلة الأولى، وفق راماني، فإن الطبيعة الودية للقاء دبيبة مع المسؤولين الروس تثير الدهشة. فقد قدمت روسيا دعمًا ماديًا مكثفًا لخليفة حفتر ضد حكومة الوفاق التي كانت سابقة لها في السلطة، في السياق ذاته فإن الدبيبة نفسه، وصف المرتزقة الأجانب ، ومن بينهم متعاقدون عسكريون خاصون من مجموعة فاغنر الروسية، بأنهم “طعنة في ظهرنا وتهديد للسيادة الليبية”!!، وهذا اللقاء يثبت،أن روسيا وفي اطار صراعها المرير مع الولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا غيرت بوصلتها على الفور، ونجحت في التحول مباشرة ونسج علاقات مع حكومة الوحدة المؤقتة، رغم كل ما سبق من مواقف داعمة لحفتر.
ويشير صموئيل راماني، أن موسكو تصر على الا تخرج من ليبيا مجددا، فلم تنسى موسكو أن حملة الناتو الاستعمارية على ليبيا 2011 كلفتها الكثير، فقد خسرت روسيا بسببها 4 مليارات دولار في عقود الأسلحة القائمة، ومئات الملايين من الدولارات من عائدات التنقيب عن الغاز، وتخلت عن عقد سكك حديدية وطني بقيمة 3 مليارات دولار تديره شركة السكك الحديدية الروسية وغيرها، وهى لا تسعى للخسارة ثانية.
ولذلك تحركت موسكو، على الأرض عسكريا واقتصاديا، ومنذ عام 2017، اتخذت روسيا خطوات تحضيرية لتأسيس موطئ قدم رئيسي في عملية إعادة الإعمار في ليبيا. ووقعت شركة النفط الروسية العملاقة “روسنفت” صفقة شراء النفط مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية في فبراير 2017 ، وفي أكتوبر 2018 ، أجرى وزير الاقتصاد والصناعة الليبي السابق، ناصر شجلان محادثات مع المسؤولين الروس حول إحياء مشروع سكة حديد بنغازي – سرت، ورغم التحديات التي تواجه الوجود الروسي في ليبيا، فالواضح أن هناك تمسكا شديدا بهذا النفوذ.
والخلاصة.. وأما هذا الطرح وعلى رقعة ليبيا، يدور صراع شرس على مقدرات الدولة الوطنية وتحولت ليبيا، كنتيجة لأحداث 2011، الى “لقمة سائغة” بين موسكو وواشنطن وهما اليوم يصفيان حساباتهما أو يستعرضان نفوذهما فيها.
في السياق ذاته، فإن الصراع الروسي الأمريكي حول ليبيا، نقله حالته إلى مستوى أكبر، وجعل من أي حل رهن توافق موسكو وواشنطن في ملفات كثيرة، ولا يستطيع أي أحد من اللاعبين المحليين أو الوكلاء أن يقول غير ذلك.