مقالات وآراء

التائهون في هوامش التاريخ _ بقلم الفارس الليبي

غادرت قسراً أسراب الطيور ، وبكت دماً الجدران العتيقة ، وماتت علي أرضها أغصان الشجر ، في مدينة كانت تضج بنبض الحياة ، مفعمة بسلسبيل الود ، متلألئة بأضواء الفرح ، تتمايل كصبية غضة يغازل نسيم البحر جدائلها الساحرة ، وتشتعل بوهج الجمال حين ينام القمر على أكتافها .
هجرت أزقتها وداعة الطيبيين حين يلقى المساء عباءته على أطرافها ، وصمتت في الثلث الأخير دعوات الصالحين بصعود فلول التتار على مأذنها ، وضاعت تمتمة الجدات بعذب الحكايا في سكون ليلها الذي أخترقه السكارى بمعتق بقايا سياط الجلادين ، وماتت ضحكات البراءة التي كانت تسرق القلوب جنونا في صباحاتها البواكر حين داستها أقدام الصليب .
كانت تنام على ذلك الرصيد الضارب في عمق التاريخ ، المرصع بحجارة الأغريق ، ودروب الصحابة ، وقوافل الفاتحين ، وسنابك خيل المختار ، وهدير صاحب الحق اليقين . فأضحت بقايا ركام ، وأثار دم ، وصخب ردة ، وصدى خوف ، وعبرات أنين .
الكل يجمع بأن ذلك الحضور المهيب ضيعه بائعي الذمم على أرصفة عواصم الضباب ، وتلك القامة السامقة كسر ظهرها عقوق الأبناء التائهين في هوامش التاريخ ، وذلك المجد الرفيع شوهته قطعان الردة الراقصة على الثرى المقدس ، وذلك الجمال البديع حطمته الأيادي الأثمة .
وهي تصرخ دون مجيب ، منذ أقامت الحداد على فتية أمنوا بربهم ، وقدموا أرواحهم قربان لعيونها ، وسقطوا على مداخلها بطعنات أخوة يوسف .
فمن يعيد للأمين حقه ، وللبيان صوته ، وللعهد ميثاقه ، وللجهاد شرعه ، وللعروبة نصبها الخالد ، ومن يمسح آثار أقدام الشيطان التي داست على كل كرامة ، وأغتصبت كل حق ، وشوهت كل تاريخ ، وكفرت كل إجلاء ، وأسقطت كل راية .
الجدران في صمت رهيب تتساقط بدون مراسم وداع واحدا تلو الأخر ، والجموع تائهة بين طوابير المقابر الباكية ، ونوافذ الخزائن الفارغة ، وزخات الرصاص الماكرة ، وبقايا الجتث المقيدة ضد مجهول ، والخيانة وسط الضجيج جعلت غواية الكرسي كعجل السامري أثمن من أوسمة التاريخ ، والعبث طال كل المحطات الجميلة المنقوشة في ثنايا الذاكرة ، والشعارات الخادعة أقامت جدار عازل أمام وخزات الوعي وصحوة الضمير ، والأحقاد الكامنة أعمت البصائر عن حجم الإثام والذنوب ، وإعلام رؤوس المال أغرقت العامة بالجدل العقيم ، وتبقى الحقيقة المرة حبيسة الأزقة الطاهرة والقلوب الصادقة حتى بيان قدس أخر ينقذ حسناء المتوسط من أيادي العابثين والواهمين والضالين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى