مقالات وآراء

إلى أدعياء السيادة على الاستحقاق والمتعالين عن منطق العقل والجالسين على الربوة .. الانتخابات خيار وطني رغم عيوبها.. بقلم : محمد الأمين

لنتّفق، في الشكل، أولا، على أمر لا أحسبك جاهلا به.. أن الحجة إنما تقام بالمنطق والبيان وليس بالتهجم وإلقاء اللائمة على الغير بغريب اللفظ وبالاتهام وبالجعجعة التي لا تفيد.

ولنتفق في الجوهر أن بلدان منابع الطاقة في العالم الثالث لم ولا ولن تكون كاملة الحرية ومطلقة الإرادة في حكم نفسها والسيطرة على قرارتها.

هذا قانون غير مكتوب.. يمكنك أن ترفضه، لكن يستحيل عليك تغييره.. لأن هذا محض خيال وتهافت تكذبه معطيات الواقع ودروس التاريخ.. وتدحضه المآسي التي تعرضت إليها شعوب غنية بالثروات، مفلسة في السياسات، ضعيفة البصيرة وقاصرة عن تقدير المواقف وعن حساب موازين الربح والخسارة.

يمكن للأمم الغنية بالثروات الأحفورية أو المعدنية أو باحتياطيات الغاز أو غيرها في العالم الثالث أن تكون في أقصى الأحوال مديرا جيدا لمواردها، ومدبّرا جيدا لأبواب إنفاق عائداتها، وتلميذا مجتهدا في التعلم من الأمم المتقدمة كي تستفيد من ثروات قد يباغتها النضوب أو تلتهمها نيران الحروب فتتحول إلى دخان.

أما مناطحة العالم وعرقلة نموّه وتعريض أسواقه إلى الاضطرابات فلا تجرّ إلا الخراب والدماء والدمار.. وابدأ من حيث شئتَ، وتصفّح ما شئت من صفحات التاريخ النفطي المعاصر منذ ايران مصدّق، إلى العراق وليبيا وفنزويلا وأفريقيا، وغيرها.

 ولقد كان في الأمر متّسع للتحدي والندّية في مواجهة القوى الاستعمارية والإمبريالية على النحو الذي شهدناه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قبل دخول العالم عهد الأحادية القطبية.. حيث كانت بعض القيادات الوطنية عبر العالم تستفيد من الحرب الباردة وبيئة المعاندة بين القوتين الأمريكية والسوفييتية آنذاك لتكسب جولات معدودات في معارك السيادة والسيطرة على الموارد بالتأميم أو بالمعاهدات المختلفة.

لكن معظمها قد دفع ثمنا باهظا من سلام بلده أو من رخاء وأمان شعبه أو حتى من حياته.

فنحن بمعنى من المعاني إزاء قانون لعبة خالفه بعض الليبيين.. ومنطق دولي ناشئ مع العولمة تتشابك وفقه المصالح وتتلاشى الأدلجة وتهيمن البراجماتية، عجز عن فهمه بعض الليبيين.. ورفضه البعض الآخر.. وإزاء حالة انقياد ارتمى فيها طيف آخر من شركاء الوطن.. كان الأمر عبارة عن خليط من الخطايا، كومة من سوء التدبير والخيانات والتردي والانحدار والأنانيات والكراهية، حوّلت البلد إلى رقعة غير قابلة للحكم، وبؤرة عدم استقرار بتعقيدات تتجاوز كثيرا قدرات ونوايا أبناء البلد هذا جلب التدخل الأجنبي بكافة أشكاله وتجلياته كما قد جلب العدوان الأجنبي من قبل.

هذا الخارج لم يأتِ لمصلحة ليبية في بدايات 2011 ولا في وسط العقد الماضي.. ولا في أواخره بل جاء تقوده مصالحه، بلهجة آمرة حينا ومتملّقة حينا آخر، مما عقّد على الليبيين اختيار الحاضنة المناسبة لـ”مسارات التسوية” التي كانت أصلا إقصائية، وكان مقتصرة على طيف ما بعد 2011 دون غيره.

فالليبيون الذين ارتكبوا كافة الخطايا قد فقدوا القدرة على التعايش، وعلى الإنصات إلى بعضهم البعض، فجربوا لغة الحرب، لكن هذه أيضا لم تكن ليبية محضة.. ولم يبق غير حلول الخارج بما فيها من إملاء وتشوهات..  والباقي تعلمه واعلمه ويعلمه الليبيون وغير الليبيين.

أما في ما يتعلق بالانتخابات،، فلا شكّ أنها الخيار الأقلّ تكلفة.. وهي ستضمن على الأقل حقن الدماء، وإدارة الخصومات دون بنادق، ودون الاحتكام إلى المدفعية ولا إلى المسيّرات والمرتزقة.

وسواء أكان للخارج ممثلون داخل المشهد ما بعد الانتخابات، أو لم يكن، فالمحاور المختلفة التي خلقتها حالة الصراع والإقصاء والتباغض التي أنتجتها فبراير، والتبعية الإقليمية والدولية، هي واقع مفروض في ظل عجز النخبة السياسية وضحالة خيالها السياسي وفساد تكوينها القائم إما على أيديولوجية دوغمائية إلغائية، أو ارتهان وطمع وانتهازية بلا مبدأ وبلا ولاء وبلا وازع وطني.

فكيف تتصور أنت أن يتحقق في مشهد من هذا القبيل سيناريو انتخابات مكتملة بقوانين خالية من الثغرات والإشكاليات؟ سيكون هذا مجرد وهم بائس لا يعتنقه إلا السطحيون وهم لا يضاهيه إلا الاعتقاد بإمكانية انصياع اللاعبين الحاليين لقواعد أية لعبة تُعرض عليهم، وبإمكانية مغادرتهم المشهد بلا ضجة أو نكدٍ أو مناكفة.. فقد كان هذا ديدنهم ودأبهم.. ولو اجتهد كل العالم لترضيتهم لأهدر الفرص والوقت دون أن يظفر منهم بتعهّد أو كلمة شرف.

أما الترفّع أو التعالي -على الأصح-، والاكتفاء بالجلوس على الربوة بزعم أن الانتخابات شرّ مطلق، وأنها لن تفضي إلى شيء، فهو موقف متخاذل ومتكاسل ومتواكل.. أنصح من يعتنقونه ويدّعون وجود عيوب في القوانين أو عبثية في المشهد أن ينزلوا إلى ساحة الفعل، أو إلى أن يحملوا بنادقهم ويغيروا الواقع بالأيدي وليس بالأمنيات عسى أن نتعلم منهم أو أن ننضم إلى صفّهم.

المعضلة الحقيقية التي أراها في فهمك للأمور وفي تقييمك للمشهد هو تجاهلك للشعب.. فهذه الانتخابات بعيوبها وشرورها قد عجز أهل النخبة عن تأمينها وتنظيمها بمعزل عن الإرادة الخارجية وعن التدخل الأجنبي.. هذه الانتخابات المنقوصة أو العرجاء هي التي ستجدّد شرعية متهالكة متآكلة ومشوّهة استبدّ أدعياؤها بالوطن وبمقدراته وبفرصه في الإنقاذ والخروج من الأزمة.. هذه الانتخابات بعيوبها، سوف تأتي بأناس بمستوى تأييد شعبي معقول وملموس.. وستكون نقطة انطلاق فعلية نحو الاستقرار، كما كان الحوار على المنصة الأممية وتحت الفصل السابع منطلقا نحو محطة واقعية وملموسة اسمها الانتخابات.

كما أن تنظيم استحقاقات انتخابية متتالية سيساعد على تجديد كافة مؤسسات الدولة وإعادة تأهيلها في غضون أقل من عشر سنوات.. وسيساعد على إفراز سلطات منتخبة من قبل الليبيين وتحظى بدعم شعبي يمنحها القدرة على التعاطي مع الخارج وفق المصلحة الوطنية، وليس وفق مصلحة الفرد أو الطائفة أو الجماعة أو القبيلة.

ولا تنسى وأنت تكيل الانتقاد الخالي من الحجج، وتلقي بالقوالب الجاهزة المتآكلة، وتُخرج لفافات الصحف الصفراء بلا وعي أن هذه الانتخابات كعنوان، واستحقاق، وآلية، هي مطلب رئيسي للمواطن الليبي، أتت له به الأمم المتحدة، وحقّقه له المجتمع الدولي.. فما الذي حقّقته أنت للمواطن الليبي؟ وما الذي حققه له أمراء الحرب؟ وما الذي جلبه له المؤدلجون والعملاء؟

لو سألت المواطن الليبي عما إذا كان يفضّل الشراكة في بلاده مع أجنبي أو ليبي، لقال لك أنه يفضل الشراكة مع أجنبي.. لا تتفاجأْ، فالأجنبي لن يشهر في وجهه السلاح.. ولن ينهب بيته.. ولن يلغّم حجرة نوم أطفاله.. ولن يدفع من ماله إلى المرتزقة كي يستوطنوا في بلده.. المواطن الليبي كفر بكل من في المشهد، ويقبل أن يتخلص منهم تدريجيا بالانتخابات لأنه قد عجز على مواجهتهم بالقوة.. المواطن الليبي يريد استرداد بلد جلب العملاء إليه العدوان الأجنبي كي ينتزعوه منه منذ عقد من الزمن..

لا أعوّل كثيرا على صحوة ضمير من هؤلاء فيتوقفوا عن عرقلة مسار ماض في طريقه، لكنني أؤمن تماما أن الصفعات التي سيوجّهها إليهم الشعب الليبي، والدرس الذي سيلقّنهم إياه سيكشف لهم أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم وأشخاصهم.. وأنهم لن يحضوا حتى بأصوات عوائلهم وأقاربهم لو احتكموا برجولة وشجاعة إلى صندوق متحرر من مدافعهم ورشاشاتهم وأموالهم الحرام …وللحديث بقية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى