تفسير الطبري في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ
قال أبو جعفر: أما قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة “، فإنه عطف ب ” إذ ” على قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ . وقوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ، واذكروا ” إذ ابتلى إبراهيم ربه “,” وإذ جعلنا البيت مثابة “.
* * *
و ” البيت ” الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام.
* * *
وأما ” المثابة “، فإن أهل العربية مختلفون في معناها, والسبب الذي من أجله أنثت.
فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في” المثابة “، لما كثر من يثوب إليه, كما يقال: ” سيارة ” لمن يكثر ذلك،” ونسابة “.
وقال بعض نحويي الكوفة: بل ” المثاب ” و ” المثابة ” بمعنى واحد, نظيرة ” المقام ” و ” المقامة ” (46) . و ” المقام “، ذكر -على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه, وأنثت ” المقامة “، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون ” المثابة ” ك ” السيارة، والنسابة “., وقالوا: إنما أدخلت الهاء في” السيارة والنسابة ” تشبيها لها ب ” الداعية “.
* * *
و ” المثابة “” مفعلة ” من ” ثاب القوم إلى الموضع “، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. (47)
فمعنى قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس “: وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه, فلا يقضون منه وطرا. ومن ” المثاب “، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم:
مثــاب لأفنــاء القبــائل كلهــا
تخــب إليــه اليعمـلات الطلائـح (48)
ومنه قيل: ” ثاب إليه عقله “, إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1963- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو عاصم قال، حدثنا] عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال: لا يقضون منه وطرا. (49)
1964- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1965- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، يثوبون إليه, لا يقضون منه وطرا.
1966- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه.
1967- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، لا يقضون منه وطرا, يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.
1968- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.
1969- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، يثوبون إليه من كل مكان, ولا يقضون منه وطرا.
1970- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء مثله.
1971- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول, عن عطية في قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، لا يقضون منه وطرا (50) .
1972- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان, عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، يحجون ويثوبون.
1973- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا الثوري, عن أبي الهذيل, عن سعيد بن جبير في قوله: ” مثابة للناس ” قال، يحجون, ثم يحجون, ولا يقضون منه وطرا. (51)
1974- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر, عن غالب, عن سعيد بن جبير: ” مثابة للناس ” قال، يثوبون إليه. (52)
1975– حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ” قال، مجمعا.
1976- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ” مثابة للناس ” قال، يثوبون إليه.
1977- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ” مثابة للناس ” قال، يثوبون إليه.
1978- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ” وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ” قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمْنًا
قال أبو جعفر: و ” الأمن ” مصدر من قول القائل: ” أمن يأمن أمنا “.
* * *
وإنما سماه الله ” أمنا “، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ . [سورة العنكبوت: 67]
1979- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ” وأمنا ” قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.
1980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما ” أمنا “، فمن دخله كان آمنا.
1981- حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله: ” وأمنا ” قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.
1982- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ” وأمنا “، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح, وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن.
1983- حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ” وأمنا ” قال، أمنا للناس.
1984- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله: ” وأمنا ” قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” بكسر ” الخاء “، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة, وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. (53) وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:-
1985- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, لو اتخذت المقام مصلى! فأنـزل الله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “.
1986- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا, عن حميد, عن أنس, عن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
1987- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد, عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, فذكر مثله. (54)
* * *
قالوا: فإنما أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها -وهي أمر- على وجه الخبر.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ و ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “. فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،….. كما حدثنا [عن] الربيع بن أنس. (55) بما:-
1988- حدثت [به] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى, فهم يصلون خلف المقام. (56)
* * *
فتأويل قائل هذا القول: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال، إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
* * *
قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل, يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء, وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: (واتخذوا) بفتح ” الخاء ” على وجه الخبر.
* * *
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: ” واتخذوا ” إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر,
فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. (57)
وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله: جَعَلْنَا ، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى (58) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا: ” واتخذوا ” بكسر ” الخاء “, على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا, وأن:
1989- عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “. (59)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “، وفي” مقام إبراهيم “. فقال بعضهم: ” مقام إبراهيم “، هو الحج كله.
* ذكر من قال ذلك:
1990- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: ” مقام إبراهيم “، قال الحج كله مقام إبراهيم.
1991- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” قال، الحج كله.
1992- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان، عن ابن جريج, عن عطاء, قال: الحج كله ” مقام إبراهيم “.
* * *
وقال آخرون: ” مقام إبراهيم ” عرفة والمزدلفة والجمار.
* ذكر من قال ذلك:
1993- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء بن أبي رياح: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار.
1994- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى – لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة.
1995- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” قال، مقامه، عرفة.
1996- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود, عن الشعبي قال: نـزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة: 3]، الآية.
1997- حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن الشعبي مثله
* * *
وقال آخرون: ” مقام إبراهيم “، الحرم.
* ذكر من قال ذلك:
1998- حدثت عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” قال، الحرم كله ” مقام إبراهيم “.
* * *
وقال آخرون: ” مقام إبراهيم ” الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه, وضعف عن رفع الحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
1999- حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه, وإسماعيل يناوله الحجارة, ويقولان: ” رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ “. فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر, فهو ” مقام إبراهيم ” (60)
* * *
وقال آخرون: بل ” مقام إبراهيم “, هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
2000- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. (61) ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه, فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. (62)
2001- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “، فهم يصلون خلف المقام. (63)
2002- حدثني موسى (64) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “، وهو الصلاة عند مقامه في الحج.
و ” المقام ” هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه, فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب, فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر, فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته, فغابت رجله أيضا فيه, فجعلها الله من شعائره, فقال: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن ” مقام إبراهيم “، هو المقام المعروف بهذا الاسم, الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، (65) ولما:-
2003- حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن, فرمل ثلاثا، ومشى أربعا, ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى “. فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. (66)
* * *
فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب ” مقام إبراهيم ” الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى – هو الذي وصفنا.
ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، (67) حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب ” مقام إبراهيم ” هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ”
* * *
[قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى: ” مصلى “]، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. (68) فقال بعضهم: هو المدعى.
* ذكر من قال ذلك:
2004- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده.
* ذكر من قال ذلك:
2005- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده.
2006- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هو الصلاة عنده.
* * *
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل: ” المصلى ” ههنا، المُدَّعَى, وَجَّهوا ” المصَلَّى ” إلى أنه ” مُفَعَّل “، من قول القائل: ” صليت ” بمعنى دعوت. (69) .
وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله.
* * *
فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها, وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها, فإني قد جعلته لمن بعده -من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره, فاقتدوا به.
* * *
وأما تأويل القائلين القول الآخر, فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده, عبادةً منكم, وتكرمةً مني لإبراهيم.
* * *
وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ” وَعهدنا “؛ وأمرنا، كما:-
2007- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
2008- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ” وعهدنا إلى إبراهيم ” قال، أمرناه.
* * *
فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين.” والتطهير ” الذي أمرهما الله به في البيت, هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: ” وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين “؟ وهل كان أيام إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم, فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟
قيل: لذلك وجهان من التأويل, قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل. (70)
أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب (71) كما قال تعالى ذكره: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ , [سورة التوبة: 109]، فكذلك قوله: ” وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي”، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:-
2009- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ” وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي”، يقول: ابنيا بيتي [للطائفين]. (72)
فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:-
2010- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ” أن طهرا ” قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها. (73)
2011- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن عبيد بن عمير: ” أن طهرا بيتي للطائفين ” قال، من الأوثان والرَّيْب.
2012- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبيد بن عمير, مثله.
2013- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, قال: من الشرك.
2014- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل, عن أبي حصين, عن مجاهد: ” طهرا بيتي للطائفين ” قال، من الأوثان.
2015- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ” طهرا بيتي للطائفين ” قال: من الشرك وعبادة الأوثان.
2016- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، بمثله – وزاد فيه: وقول الزور.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : لِلطَّائِفِينَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ” الطائفين ” في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ. (74)
* ذكر من قال ذلك:
2017- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: ” للطائفين ” قال، من أتاه من غربة.
* * *
وقال آخرون: بل ” الطائفون ” هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله.
* ذكر من قال ذلك:
2018- حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: ” للطائفين ” قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من ” الطائفين “.
* * *
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن ” الطائف ” هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم ” طائف بالبيت “، إن لم يطف به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَالْعَاكِفِينَ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ” والعاكفين “، والمقيمين به.” والعاكف على الشيء “، هو المقيم عليه, كما قال نابغة بني ذبيان:
عكوفــا لــدى أبيـاتهم يثمـدونهم
رمـى اللـه فـي تلـك الأكف الكوانع (75)
وإنما قيل للمعتكف ” معتكف “، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: ” والعاكفين “.
فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة.
* ذكر من قال ذلك:
2019- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين, وإذا كان جالسا فهو من العاكفين.
* * *
وقال بعضهم: ” العاكفون “، هم المعتكفون المجاورون.
* ذكر من قال ذلك:
2020- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: ” طهرا بيتي للطائفين والعاكفين ” قال، المجاورون.
* * *
وقال بعضهم: ” العاكفون “، هم أهل البلد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
2021- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: ” والعاكفين ” قال: أهل البلد.
2022- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ” والعاكفين ” قال: العاكفون: أهله.
* * *
وقال آخرون: ” العاكفون “، هم المصلون.
* ذكر من قال ذلك:
2023- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس في قوله: ” طهرا بيتي للطائفين والعاكفين ” قال، العاكفون، المصلون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء, وهو أن ” العاكف ” في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة ” العكوف ” ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم, وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر – في قوله: ” أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ” – المصلين والطائفين, علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من ” العاكف “، غير حال المصلي والطائف, وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه, وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ” والركع “، جماعة القوم الراكعين فيه له, واحدهم ” راكع “. وكذلك ” السجود ” هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم ” ساجد ” – كما يقال: ” رجل قاعد ورجال قعود ” و ” رجل جالس ورجال جلوس “، فكذلك ” رجل ساجد ورجال سجود “. (76)
* * *
وقيل: بل عنى ” بالركع السجود “، المصلين.
* ذكر من قال ذلك:
2024- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: ” والركع السجود ” قال، إذا كان يصلي فهو من ” الركع السجود “.
2025- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ” والركع السجود “، أهل الصلاة.
* * *
وقد بينا فيما مضى بيان معنى ” الركوع ” و ” السجود “, فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (77)